• ×
الإثنين 27 شوال 1445
سعود الحربي

التفجير و التطهير

سعود الحربي

 0  0  720
( التفجير و التطهير )

التفجيرُ هو العمل المعروف الذي تعددتْ صورهُ من تفخيخ للأماكن العامّة و السيّارات، و لبس الأحزمة الناسفة و غير ذلك، و الذي انتشر في الآونة الأخيرة كآليّة حديثة للإرهاب، و هو قائم على الغدر و الخيانة و عدم المواجهة ممّا يدل على ريبة في نفس فاعله، و عدم يقينه بغايات مقصدهِ، فهو عملٌ يذهب بصاحبه فلا يعود ليجني ثمرة فعله، و لا يتحقق الصلاح من مقصدهِ لمن بقي بعدهُ؛ لأنّ الحقيقة الباقة أنقاضُ مبانٍ و أشلاءُ أجسادٍ وأنفسٍ، و شلال دموعٍ و أحزانٌ تكتم النفس، وهذه هي حقيقة التفجير، ولم يعد يجهله أحد .

أمّا التطهير فيرادُ به هنا الأعمال التي يقوم بها المسلمُ و يكون مترتباً عليها الطهارة من الذنب و الخلوص من دنس المعصية و قد جاءتْ هذه اللفظة صرحيةً و غير صريحةٍ في أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلّم، منها: أنّ ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: "يا رسول الله طهرني"، وكرر ذلك حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: "ممّا أطهرك"، قال ماعز: "من الزنا"، فعُلمَ من ذلك أنّه كان يبحث عن الطهارة من معصية الزنا، و جاء في دعائه صلى الله عليه و سلّم: "واغسلني من ذنوبي بالماء و الثلج و البرد"، فالذنوب أوساخ يُطلب من العبد العمل على غسلها ودعاء الله أن يطهِّرهُ منها، و يكون هذا التطهير عادة بأمور منها: إقامة الحدود المكفرة فهي كفارة لمن أقيمت عليه في ذلك الذنب المعيّن الذي أُرْتُكِب، و يكون بدعاء الله و استغفاره، وأيضاً يكون التطهير بالأعمال الصالحة وهي من باب "أتبع السيّئة الحسنة تمحها"... وغير ذلك .

وكأنّي بالقارئ يتساءل ما علاقة التطهير بالتفجير؟ و لماذا جُمعا هنا ؟

حقيقة التفجير في مفهوم فاعله و من يؤزّه إليه هو طريقٌ إلى التطهير الكلّي و الذي يستحضرُ فيه فاعلهُ من غير دراية حديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم: "يُغفر له في أوّل قطرة من دمه"، و أيضاً: "لا يجد ألم القتل، إلّا كما يجد ألم القَرْصَة"، فإذا كانت المغفرة تكون له في أول قطرة من دمه و لا يشعر أثناء ذلك إلّا بألم القرصة، وتطوّى بعدها صحيفته لخروجه من الدنيا و يختم له بذلك، فهذه خاتمة يسيرة رابحة مغلقة النهاية لا تقبل النقص أبداً، بل صاحبها في زيادة، فبعدها تفتح له أبواب الجنّة و يرى مقعده منها، و يوضع على رأسه تاج الوقار، و يزوّج باثنتين و سبعين حوريّة... إلى غير ذلك ممّا ورد في أجر الشهيد و ما يكون له يوم القيامة .

لكنّه لم يدّرِ أنّ الأمر ليس بهذا اليسر و بهذه السهولة، إنّما جعل ذلك لمن يقاتل الكفّار ليس المسلمين و لمن حمل سيفه (أو بندقيّته) و قُتل مقبلاً غير مدبر، ثم إنّ هذا لم يسأل نفسه: لماذا التولي يوم الزحف و الإدبار كبيرة من كبار الذنوب؟ و لماذا أَمِنَ الشهيد من فتنة القبر و يَأْمنُ يوم القيامة الفزع الأكبر؟ لأنّه كفى ببارقة السيوف فوق رأسه فتنة، و لأنّه يقتل في المعركة مائة قتلة قبل أن يموت، و لأنّ القتل غير مضمونٍ فقد تقطع يدهُ و تفقأ عينهُ و يعيش بين الناس بهذه الصورة، و لا شكّ أجرهُ في ذلك أعظم، و لماذا عدّ الرسول صلى الله عليه و سلّم من وضع ذؤابة سيفه على كبده فقتل نفسه ولم يصبر على ألم الجراح "أنّه من أهل النار" كما جاء في الحديث؛ لأنّ الجهاد صبرٌ في أوله و آخره .

ثمّ إنّه لم يكنْ لمن ذهب في هذا الطريق عودة؛ لكي يأتي بالخبر اليقين فرائد هذا الطريق ذاهبٌ إلى الغيب بلا عودة، و خبرُ الجنّة عند ربّه ولم يبعث ربّه رسولاً شاهداً له بالجنّة؛ لكنّ رائدُ أهل الحق دليلٌ يهدي من كتاب الله تعالى و سنّة رسوله صلى الله عليه و سلّم، وقد جاء في الدليل الهادي أنّ قاتل نفسه في النار و أنّه لا يزال يتكرر عليه ألم القتل حتى تقوم الساعة؛ لأنّه بادر الله بنفسه، فقد يستحيلُ ألم القرصة في تصوّر هذا المفجّر عذاباً سرمديّاً إلى يوم القيامة، و قد يكون التطهير الكلّي تلبّس بالذنب كلّي، بل ذنب لا يزال يطاردهُ بعد موته بسبب دعاء المظلومين عليه من أطفال و أرامل و آباء مكلومين، و دعوة المظلوم ليس بينها و بين الله حجاب، و ينتصر لها الله و لو كانت من فاجر أو كافر، فالله حرّم الظلم على نفسه و جعله بين عباده محرّماً، و قاتل نفسه في هذا السبيل قد اضطّر نفسه لأضيق الطريق؛ لأنّ المرء لا يزال في فسحة من أمره ما لم يصب دماً حراماً، و هناك أناسٌ يجعل الله أعمالهم يوم القيامة هباء منثوراً بفعل ما هو أقل من هذا، جاء في الحديث "لأعلمنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً"، و هي أعمال قد ثبت صلاحها وليستْ أعمالاً فاسدةً ثبت فسادها، ثم جاء في وصفهم "إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"، و جاء في شرح الحديث أنّ معنى ذلك: من يعصي الله في الخلوة، ولا يدخل فيه من يغالب شيطانه و هواه و يضعف أحيناً ويقع ثم يستغفر و يتوب ويستر نفسه و لا يجاهر... و في العموم قد يَبْدُوا لهؤلاء المفجّرين من الله ما لم يكونوا يحتسبون .

و ختماً أقول : قد علم أصحاب التنظيمات السياسيّة الضالة و لا أقول الإسلاميّة ؛ لأنّ عملها يدلّ على أنّها لا تمت للإسلام بصلة و كل يومٍ تتكشّف نظريّاتها السياسيّة الماديّة البحتة و التي منها " الغاية تبرر الوسيلة " و أصحاب هذه الأيديولوجيات السياسيّة لا دين لهم ، بل دينهم تمليه عليهم الفرصة و النظر في الثغرات الموجودة في الواقع و العمل عليها و هم يقصدون في عملهم هذا الطبقة الهشّة المتصدّعة في المجتمع و التي هي محلّ الفرصة كطبقة صغار السنّ و المراهقين مع النظر أيضاً في الثغرات الثقافيّة الموجودة التي أوجدها الصراع الفكري و المذهبي في المجتمع، والذي أقطابه العلماء و المثقّفون، والذين كان الأولى بهم رأب الصدع و إقامة البناء ليكون حصناً حصيناً في وجهِ كلّ باغٍ ؛ لكنّ الواقع مرير و الظرف لا يزال ينتج التفجير بحثاً عن التطهير .

كتبه : سعود الحربي